الاثنين، 31 مايو 2010

حريتنا (1)

لعل مصطلح ( الحرية ) هو من أكثر المصطلحات شيوعا في اللغة الإعلامية و الصحفية – و الرسمية الحكومية – في بلادنا , في فترات تسعى فيها الشعوب لنيل ( الحرية ) بينما تؤكد السلطات الحاكمة أن ( الحرية ) موجودة فعلا !!!

و في هذا السياق , تجد التيارات المختلفة تفسر ( الحرية ) تفسيرا نابعا من ثقافتها , فتتفق في جوانب , و تختلف – و ربما تتناقض – في أخرى , مثل ( حرية السوق ) , بينما يتفق الجميع على ( حرية الاعتقاد ) و ( حرية الفكر ) و ( حرية التعبير ) و غيرها – و لو شكليا .

و كثير من المنادين بالحرية ينادون بحرية على ( النمط الغربي ) , و لا عجب , فالحرية ليست قيمة ثابتة مطلقة عند كل الشعوب و الثقافات , فلكل ثقافة مفهومها الخاص للحرية , تشترك في أمور و تفترق في أخرى , و مما تشترك فيه ( الحريات ) المختلفة , أنها كلها ( نسبية ) و ليست ( مطلقة ) , أو ( مقيدة ) و ( ذات حدود ) بمعنى آخر .
ففرنسا صاحبة ( الثورة الفرنسية ) التي كانت شرارة انطلاق الحضارة الغربية الحديثة , و التي تعتبر مهدا للحريات في نمطها الغربي , هي نفسها التي تشرّع لتقييد حريات بعض مواطنيها في ارتداء الزي الذي يؤمنون به ( النقاب و الحجاب ) لأنه ( لا يتفق مع قيم المجتمع ) , و بغض النظر عن صحة ذلك التبرير من عدمها , فإن ذلك برهان على نسبية قيمة الحرية في الغرب , و الولايات المتحدة مثلا محظور فيها إنشاء الأحزاب الشيوعية , و هكذا , فالحرية المطلقة غير موجودة على سطح الأرض , و لن توجد , فهي ضد طبيعة البشر الفردية و الاجتماعية .

لكن الحرية قيمة أصيلة في تراثنا العربي و الإسلامي , و ليست ( منتجا غربيا ) مستوردا فقط , بل ذات جذور عميقة في مجتمعاتنا , و لا يلغي هذه الحقيقة أن علت تلك القيمة الفريدة أطنان من التراب و الركام من جراء سني التخلف و التقهقر ثم الاحتلال ثم الاستبداد , فمما تمتاز به أمتنا أنها تمرض و لا تموت , و تظل قيمها قادرة على الانبعاث بعد طول ركود كالعنقاء من تحت الرماد .

و قيمة الحرية في تراثنا تختلف كثيرا عن قيمة الحرية ( الليبرالية ) , حتى في تراث العرب قبل الإسلام , فقد كان لدى العرب – على ما هم فيه من فرقة و تخلف و وثنية – من الشيم الإنسانية و السجايا الرفيعة , ما جعل إعادة بعث الإنسان من مواته بالإسلام – بعد فضل الله تعالى – على أيديهم .

و بما أن الشعر و الحكم و الأمثال هي ديوان العرب , و مخزن قيمهم و مستودع ثقافتهم , فإن دلالة مصطلح الحرية في أمثال و أشعار و حكم العرب مهم جدا في تفسير معنى الحرية كقيمة عربية أصيلة .

و مما جاءنا في ذلك , ما يدل على أن ( الحر ) لدى العرب غير ( الحر ) في مصطلح التيارات المتأثرة بالفكر الغربي الحديث , فبينما ( الحر ) الليبرالي مثلا هو ( المتحرر من كل قيد ثقافي أو سياسي أو اقتصادي ) , فإن ( الحر ) العربي يتصف بصفات أخرى و معايير مختلفة , فكثيرا ما نقرأ ( الحر يفعل كذا ) ( الحر لا يفعل كذا ) , و من ذلك ( العبد يقرع بالعصا و الحر تكفيه الإشارة ) , ( تموت الحرة و لا تأكل بثدييها ) , ( وعد الحر دين عليه ) ,
و (ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد ) , ( يد الحر ميزان ) , و ترنم الإمام الشافعي – رضي الله عنه – قائلا : ( همتي همة الملوك و نفسي ... نفس حر ترى المذلة كفرا ) , و ( الحر من راعى وداد لحظة ... أو انتمى لمن أفاده لفظة ) , و قول هند بنت عتبة حين أتت تبايع النبي – صلى الله عليه و سلم – فبايعها البيعة المعروفة ب ( ببيعة النساء ) و التي من بنودها ( ألا تزنين ) , فقالت مستغربة – و هي لم تصطبغ بالإسلام بعد - ( أو تزني الحرة ؟ ! ) .

و طبعا مع عدم الخلط بين التعريف و الوصف , فتلك الأمثال و الحكم هي في ( وصف الحر ) لا ( تعريف الحرية ) , لكن الوصف أحيانا يكون ملازما للتعريف , بحيث إن فقد الوصف فلا معنى للتعريف لأنه يصبح مفرغا من مضمونه , و هذا ما أعتقده عن تلك الأوصاف , أنها ملازمة للتعريف لصيقة به .

و هي دعوة لاستعراض ما جاء في شعر العرب و حكمهم و أمثالهم من وصف ل ( الحر ) و ( الحرة ) , فأكثرها يتمحور حول أن ( الحر ) هو من تحرر من الأخلاق الوضيعة , و ترفع عن الدنايا , و تحلى بالمروءة , فهو حر من غلبة الهوى على عقله , و حر من غلبة الجبن على قلبه , و حر من الخضوع لغيره ممن يساويه في بشريته , حر عن الطمع في المتاع و إذلال نفسه للحصول عليه , حر عن البخل , حر عن القعود عن نجدة الملهوف , و حر عن كل ما يوصف عربيا ب ( أخلاق العبيد ) , فالعبودية تنتج أخلاقا وصفها العرب بالعبد الذي ( إذا جاع سرق و إذا شبع زنى ) , و هو تعبير مجازي لا يقصد به السرقة و الزنا تحديدا بقدر ما يقصد به دناءة الخلق في الفقر و الغنى .

بل إن الله تعالى راعى الفرق بين المرحلتين ( الحرية و العبودية ) و الفترة الانتقالية التي تمر بالمتحول من الثانية للأولى , و ما قد يلصق به من دنايا الأخلاق التي لم يتخلص منها من بقايا عبوديته , فقد جعل الله حد الجارية التي تتزوج حين تزني هو نصف الحد المفترض على الحرة حين قال تعالى ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) .
فالحرية هي التخلي عما يقيد العقول و العزائم من الهوى و الطمع و الجبن و البخل , و عن السكوت على الظلم و الضيم , و ليست بالمفهوم الغربي للحرية الشخصية أو الحرية الفردية و التي تجعل الفرد حرا طالما لم يتعد حدود دائرته إلى دائرة مجتمعه , بل هي حرية ليست مجرد حرية مقيدة بفضائل الأخلاق , بل ملازمة لفضائل الأخلاق , بل هي فضائل الأخلاق .

فهذا طرف من ( الحرية ) في تراثنا , و هي كما وصفنا , قيمة ملازمة لقيم أخرى لصيقة بها , محققة التناسق الفطري بين القيم و الأخلاق , فليست القيم الحميدة منعزلة عن بعضها , بل هي كحبات خرز منظومة في سلك واحد , تشكل بمجموعها شيئا قيما , بينما ربما لا تمثل الواحدة منها الكثير إن انعزلت عن أخواتها .

هذا كله عن ( الحر ) كفرد , فماذا عن ( الحر ) كوصف للمجتمع و الدولة ؟ هذا ما نتعرض له إن شاء الله تعالى إن كان في العمر بقية , و في الوقت متسع , و في الذهن مساحة , و في القلم مزاج مناسب .

و الله أعلم .